بحسب ما يقول علماء الإنسانيات، البشر الأوائل كانوا بدو رحالة يتنقلون باستمرار، لأن طعامهم أيضا كان له أرجل ويتنقل باستمرار، عاشوا على الصيد وجمع ما تيسر من ثمار الشجر أثناء ترحالهم المتواصل.
لم يعرف الإنسان الاستقرار إلا مع بداية الزراعة، فكما يقولون بدون زراعة لا توجد حضارة (no agriculture, no culture) الحضارة الإنسانية أصبحت ممكنة فقط بسبب استئناس نباتات (حشائش) كانت تطلع من تلقاء ذاتها، وحيوانات برية صارت مع الوقت جزء مهم من حياة الإنسان وعمله. من الحشائش التي وجدها الإنسان على الأرض كان القمح والشعير! من الحيوانات الحمار والحصان والماعز…الخ
مع الزراعة ابتدأ الإنسان ببناء المساكن الدائمة وظهرت المدن. على سبيل المثال مدينة “أوروك” في منطقة ما بين النهرين كان تعداد سكانها حوالي خمسين ألف إنسان يعيشون في أقل من ميل مربع بكثافة سكانية تنافس مدينة نيو يورك اليوم! ولأن محصول القمح والشعير يحصد مرة واحدة في السنة في نفس الوقت تقريبا، ظهر الاحتياج للتخزين وتطوير نظام للحساب والوزن والتسجيل بالكتابة، ظهر الاحتياج للتخطيط، ولحراسة المحاصيل فكان أول جيش، ولإدارة المدن فكانت أول شكل من أشكال الحكومة.
الشعوب التي بوركت بتشكيلة جيدة من النباتات والحيوانات القابلة للاستئناس ازدادت في القوة والتطور وسبقت الشعوب التي لم يكن لها نفس الحظ… شعوب الهلال الخصيب (أودية دجلة والفرات والنيل) توفر لها أكبر عدد من الحيوانات والنباتات القابلة للاستئناس. شعوب الصحراء الإفريقية والأميركتين كان حظهم أقل، لذلك يوجد بينهم مجتمعات مازالت تعيش بطريقة بدائية حتى اليوم.
الحصان مثلا أصله من الأميركتين. لكن في العصر الجليدي بعض الأحصنة (والجمال) عبرت على جسر اليابسة المؤقت بين أمريكا الشمالية وآسيا. الأحصنة اللي عبرت هي اللي نجت، لأن الحصان مع ثدييات كثيرة في الأميركتين انقرضت هناك. لكن الحيوانات التي هربت انتشرت في آسيا وأوروبا. بعد العصر الجليدي انفصلت الأميركتان عن باقي العالم مرة أخرى… حوالي 4000 سنة قبل الميلاد، قبائل بدو رحالة من آسيا الوسطى استأنسوا الحصان وكان ليه أكبر الأثر في تطور الحضارة، وعلى كل جوانب حياة الإنسان من الأعمال اليومية إلى الحرب. اكتشف الإنسان الحديد 1200 قبل الميلاد… الحصان + الحديد جعلا الإمبراطوريات ممكنة، الكلدانية ثم الفارسية ثم اليونانية ثم الرومانية…الخ. الحصان لم يعد إلى الأميركتين إلا في الرحلة الثانية لكريستوفر كولمبس في أواخر القرن الثالث عشر بعد الميلاد.
الجمل أيضا، أجداده هربوا من أمريكا الشمالية. وبعد بضعة ألاف من السنين أصبح الجمل الحيوان الأهم لحياة العرب وتجارتهم… وبعد الغزو العربي كان الجمل وسيلة النقل التجاري والتبادل ثقافي رقم1 في العالم. الجمل قادر على حمل ضعف الوزن الذي يحمله الحمار، وقطع نفس المسافة في نصف الوقت … وهو الحيوان الوحيد – المستأنس -الذي استطاع اختراق الصحراء، والوصول لتجمعات بشرية كانت معزولة تعيش بطريقة بدائية في غرب وأواسط أفريقيا فاستطاعت تلك الشعوب الالتحاق بركب الحضارة.
من هنا بقيت شعوب الأميركتين بدون أي حيوان قابل للاستئناس قادر على حمل الأحمال من محاصيل أو مواد بناء. حضارات مثل “المايا” و “الإنكا”، و “الأزتكس”، زرعوا ما استطاعوا أن يبذروه ويسقوه ويحصدوه ويحملوه بأيديهم وعلى أكتافهم، واستخدموا في البناء أيضا الحجارة التي استطاعوا حملها أو جرها بالحبال. بينما شعوب ما بين النهرين ووادي النيل أضيفت لقوة عضلاتهم قوة الحمار والحصان والجمل فأقاموا المسلات شيدوا الزيجورات والمعابد والأهرامات العملاقة.